فصل: المقصد الأول: الإحرام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


المقصد الأول‏:‏ الإحرام

ويقال‏:‏ أحرم إذا دخل الحرم، وأحرم إذا دخل في حرمات الحج أو الصلاة، كما نقول‏:‏ أنجد وأتهم، وأصبح، وأمسى، إذا دخل نجدا أو تهامة والصباح والمساء، ولذلك يتناول قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏)‏‏.‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 95‏)‏ الفريقين، ثم البحث عن حقيقة الإحرام وعن سنته‏.‏

البحث الأول‏:‏ عن حقيقته

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج كالتلبية والتوجه على الطريق، واشترط ابن حبيب التلبية عينا لا تنعقد بدونها، فلو تجردت النية عنهما‏:‏ فالمنصوص أنه لا ينعقد، وأجرى اللخمي هذا الخلاف على الخلاف في انعقاد اليمن بمجرد النية، وأنكره أبو الطاهر وقال‏:‏ لا خلاف في المذهب أن العبادات لا تنعقد إلا بالقول أو النية أو بالدخول فيها‏.‏ وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ وإن توجه ناسيا للتلبية أراه محرما بنيته، قال سند‏:‏ وقاله ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، واشترط ‏(‏ح‏)‏ مع النية التلبية، ويقوم مقامها سوق الهدي كما يقوم غير التكبير عنده مقام التكبير في الصلاة، لما في ‏(‏الموطأ‏)‏ قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏

أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال‏)‏ ولأنها عبادة لها تحريم‏:‏ فيكون له نطق كالصلاة، والجواب عن الأول‏:‏ أنه ورد برفع الصوت، وهو غير واجب اتفاقا، فإن لم يجب ما تناوله النص فأولى ما تضمنه، وعن الثاني‏:‏ المعارضه بأنها عبادة لا يجب في آخرها نطق فلا يجب في أولها كالصوم والطهارة، عكسه الصلاة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ ينوي بتلبيته الإحرام‏.‏ إما حج أو عمرة، ويبدأ القارن بالعمرة، قال ابن القاسم‏:‏ وقال لي مالك‏:‏ النية تكفي في الإحرام، ولا يسمى، قال سند‏:‏ الإحرام ينعقد بمجرد النية، وكره مالك و‏(‏ش‏)‏ التسمية، واستحبها ابن حنبل، لما في أبي داود قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة أت من ربي وقال‏:‏ قل‏:‏ عمرة في حجه‏)‏ وجوابه‏:‏ أنه محمول على الكلام النفساني، وحديث جابر ليس فيه تسمية، وسمع ابن عمر - رضي الله عنهما - رجلا يقول‏:‏ لبيك بحجة، فضرب في صدره وقال‏:‏ ‏(‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏)‏‏.‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 116‏)‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ وصرح أبو الطاهر في كتابه، واللخمي في ‏(‏التبصرة‏)‏ بأن النية إذا تجردت عن القول أو الفعل المتعلق بالحج لا ينعقد الحج، وقد تقدم تصريح ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ وسند‏:‏ أن النية كافية، وبه صرح القاضي في ‏(‏التلقين‏)‏ فقال‏:‏ الإحرام هو اعتقاد دخول في الحج، وبذلك يصير محرما، وهذا في غاية التصريح، قال صاحب ‏(‏المعلم‏)‏‏:‏ ينعقد الحج بالنية وحدها كما ينعقد الصوم عند مالك و‏(‏ش‏)‏ فهذا الصريح والتشبيه في غاية القوة، وبذلك صرح صاحب ‏(‏القبس‏)‏ وجماعة من الشيوخ، وقال سند‏:‏ لو نوى وأقام كان محرما، وهو المحكي عنهما في الخلافيات فليعلم ذلك‏.‏

‏(‏قاعدة‏)‏‏:‏ النية إنما شرعها الله تعالى لتمييز العبادات عن العادات، أو لتمييز مراتب العبادات، وقد تقدمت مباحث النية مستوعبة في الطهارة فلتراجع من هناك، ومن شرط المميز أن يفارق الذي يميزه، وإلا فليس نسبته إليه أولى من غيره، خولفت هذه القاعدة في الصوم للضرورة، وفي الطهارة مع القرب اليسير على الخلاف في اليسارة، فإذا جعلنا الإحرام مجرد النية كما صرح به المازري وغيره من المحققين، وكما قاله في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ فأفعال الحج تتأخر عنها بالشهور، ولا يمكن أن يقال‏:‏ هو ملابس للانكفاف عن محرمات الحج؛ لأنه لو لابسها إلا الجماع صح إحرامه، ولا يمكن الاكتفاء بالانكفاف عن الجماع لصحة إحرام الجاهل بتحريمه فلا يكون منويا له بجهله به، ومن شرط النية أن يدخل بها في المنوي، بل قد نقل سند‏:‏ أن الإحرام ينعقد منه وهو يجامع، ويلزمه التمادي والقضاء ولم يحك خلافا بل ذكر ما يدل على الاتفاق على ذلك من المذاهب، أما من اشترط التلبس ببعض أفعال الحج أو أقوله أو التلبيه عينا أو التلبية وسوق الهدي فهو متجه لدخوله بالنية في المنوي‏.‏

تفريع‏:‏ في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ لو أحرم مطلقا لا ينوي حجا ولا عمرة‏:‏ قال أشهب والأئمة‏:‏ من هو بالخيار في صرفه إلى أحدهما، وإلى الحج أفضل، وقال أيضا‏:‏ إلى القران أفضل لما تقدم من إحرام علي - رضي الله عنه - في حديث جابر، ولأنه يصح التزامه مطلقا فينعقد كذلك، ورأى في القول الثاني‏:‏ أنه لما صح لهما صرف لهما لعدم الأولوية، ولو اختلف العقد والنية، فالاعتبار بالعقد، وروي ما يشير إلى النطق، وروى ابن القاسم‏:‏ إن أراد أن يحرم مفردا فأخطأ فقرن، أو تكلم بالعمرة فليس بشيء وهو على حجه، وقاله ‏(‏ش‏)‏‏.‏ وقال في ‏(‏العتيبة‏)‏‏:‏ رجع مالك فقال‏:‏ عليه دم، والفرق على القول باعتبار النطق بين الحج والعبادات‏:‏ أن الإحرام له قوة الانعقاد مع منافي العبادة وهو الجماع، كما قاله سند، فلما قوي أمكن أن يعتبر نطقه بخلاف العبادات لا تنعقد مع بطلانها، وإن أحرم مفصلا فنسي ما أحرم به فهو قارن عند أشهب احتياطا، وقال غيره‏:‏ يحرم بالحج ويعمل حينئذ على القرآن، ولو شك‏:‏ هل قرن أو أفرد، تمادى على نية القران احتياطا، وإن شك‏:‏ هل أحرم بالحج وحده أو بالعمرة‏:‏ طاف وسعى لجواز العمرة، ولا يحلق لإمكان الحج، ويتمادى على الحج ويهدي لتأخير الحلاق لا للقران؛ لأنه لم يحدث نية، وإنما أحرم بشي واحد إما حجا ويكون ما تقدم من الطواف والسعي له، أو بغيره فلا يضره تماديه بعد ذلك، قال سند‏:‏ ولو نوى الحج ولم ينو حجة الإسلام انصرف إليها إن كان صرورة لقوتها، فإن نوى النفل‏:‏ فقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ ينصرف إلى الفرض، وكذلك إذا نوى عن غيره، ولو أحرم بما أحرم به فلان وهو لا يعلمه جاز عند أشهب الشافعية لقضية علي - رضي الله عنه - ولو أحرم مطلقا ولم يعين حتى طاف‏:‏ فالصواب أن يجعل حجا، ويكون هذا طواف القدوم؛ لأن طواف القدوم ليس ركن في الحج، والطواف ركن في العمرة، وقد وقع قبل تعينها‏.‏

والأفضل في الإحرام تعيين النسك خلافا ل ‏(‏ش‏)‏ محتجا بأنه عليه السلام خرج من المدينة لا ينوي حجا ولا غيره، ينتظر القضاء ينزل، فنزل عليه بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من أهل ومن لم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة، ولأنه أحوط لاحتمال طريان الموانع لنا‏:‏ حديث جابر أنه أهل الحج‏.‏ ولأن التعيين هو الأصل في العبادات، ويحمل الحديث على أنه خرج من المدينة كذلك، وأحرم عند الميقات، وكذلك خرجه ابن داود عن أبو عمر جمعا بين الأحاديث، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ لا يكون محرما بتقليد الهدي وإشعاره، ولو أراد الذهاب معه، وقاله ‏(‏ش‏)‏؛ لأن الأحرام بالنية، وقال ‏(‏ح‏)‏ وابن حنبل‏:‏ هو محرم؛ لأن ذلك من شعار الإحرام فأشبه النية والتلبية، ويبطل عليها بما لو أرسله مع غيره، ولو نوى وأقام كان محرما، ولنا‏:‏ القياس على التجريد من المخيط، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن أتى الميقاة مغمى عليه فأحرم عنه أصحابه لا يجزئ، خلافا ل ‏(‏ح‏)‏ محتجا بأن ذلك معلوم من قصده، وتلحقه المشقة ولولا ذلك، وجوابه‏:‏ أنه لو وكل في ذلك لم يصح مع تقدم القصد منه، والفرق عندنا بينه وبين الصبي وإن كان حجا لا يصح الإحرام عن الصبي‏:‏ أن الصبي تبع لغيره في أصل الدين، والحج ركن الدين بخلاف هذا، ولأن الصبي ثبت بالنص والصبا يطول بخلاف غيره، ولذلك سلم ‏(‏ح‏)‏ المجنون المطبق، قال سند‏:‏ فإن أفاق قبل الوقوف فالأحسن رجوعه لميقاته، فإن أحرم من مكانه‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ لا دم عليه، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن رفض إحرامه لا يضر، قال سند‏:‏ إن رفضه للدخول في جنسه كفسخ في عمرة أو حج في حج ولا يختلف في بقائه على الأول، أو غير جنسه، فإن كان الأول عمرة فأراد بقاءها مع الحج والوقت قابل للإرداف فهو قارن، وإن أراد قلب الأول إلى الحج فهو اعتقاد فاسد ولا ينقلب، وإن كان الأول حجا فاعتقد بطلانه فهو باق عليه، ولا تدخل العمرة على الحج، وإن اعتقد انقلابه عمرة لم ينقلب، وقال ابن حنبل‏:‏ ينقلب إن لم يسق هديا‏.‏ لما في حديث جابر‏:‏ أنه عليه السلام أهل هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي إلا النبي وأبو طلحة، فأمر عليه السلام أن يجعلوها عمرة ولأن من فاته الحج يصير إحرامه عمرة، فكذلك يصير بالفسخ‏.‏ لنا‏:‏ ما روي أنه قيل له‏:‏ يا رسول الله، الفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا‏؟‏ قال‏:‏ بل لنا خاصة، ولأنها عبادة لا يخرج منها بالفوت فلا يخرج بالنية كالعمرة وإنما أمر بالفسخ؛ لأن الجاهلية كانت تنكر الاعتمار في أشهر الحج، ويقولون‏:‏ إذا عفا الوبر، وبرئ الدبر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر، والفرق بين الفوت الفسخ‏:‏ أنه لدفع صرورة البقاء سنة بخلاف الفسخ، أما لو رفض إحرامه إلى غير شيء فهو باق عند مالك والأئمة خلافا لداود؛ لأنها عبادة لا يبطل إحرامها بالمنافيات، وأعظم أحوال الرفض أن يكون منافيا‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ المراد بعفا الوبر، أي كبر على ظهور الإبل بسبب إراحتها من السفر للحج، وهو من أسماء الأضداد‏:‏ عفا‏:‏ زاد، وعفا‏:‏ نقص وزال، فمن الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏حتى عفوا‏)‏‏.‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 95‏)‏ أي كثروا، ومن الثاني‏:‏ عفا الله عنا‏:‏ أي محا ذنوبنا وأزال آثارها، ويروى عفا الدبر، وهو تقرح ظهور الإبل من السفر للحج‏.‏

تمهيد‏:‏ قال صاحب ‏(‏النكت‏)‏‏:‏ رفض النية في الحج والوضوء لا يضره، بخلاف الصوم والصلاة؛ لأن النية مرادة للتمييز في العبادات عن العادات، أو لتمييز مراتب العبادات، والحج متميز بمواضعه المخصوصة، والوضوء بأعضائه المعينة، بخلاف الآخرين، فكان احتياجهما إلى النية أقل، فكان تأثير الرفض فيهما أبعد، قال سند‏:‏ والصبي الذي لا يميز يصير محرما بإحرام وليه عند مالك و‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، لما في الصحيحين‏:‏ ‏(‏أنه عليه السلام لقي ركبا بعسفان وذكر الحديث إلى أن قال‏:‏ فرفعت له امرأة صبيا من محفتها فقالت‏:‏ ألهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ولك أجر‏.‏ وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يكون محرما بإحرام وليه، كما لا يلزمه نذر وليه‏.‏

البحث الثاني في سننه

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هي أربع‏:‏ الغسل، والتجرد من المخيط، وركعتين قبله، وتجديد التلبية، السنة‏.‏ الأولى‏:‏ الغسل، وهو قول مالك والأئمة، لما في الترمذي ‏(‏أنه عليه السلام تجرد لإحرامه واغتسل‏)‏ وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ تغتسل الحائض والنفساء للإحرام، وقاله الأئمة لما في مسلم قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏والنفساء والحائض إذا أتتا الموقف تغتسلان وتحرمان وتقتضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت، قال سند‏:‏ هذا الغسل غير واجب قياسا على غسل الجمعة، ولا يتيمم له إذا عدم الماء كغسل الجمعة، خلافا للشافعية، فإن جهلت الحائض والنفساء الغسل حتى أحرمت‏:‏ قال مالك‏:‏ تغتسل إذا علمت، وقال عبد الملك‏:‏ إذا نسي الغسل وذكر بعد الإهلال تمادى ولا غسل عليه؛ لأنه تبع للإحرام، فإذا أحرم سقط كغسل الجمعة، وراعى مالك بقاء الإحرام، وإذا رجت الحائض الطهر إذا وصلت الجحفة‏:‏ قال مالك لا تؤخر عن ذي الحليفة؛ لأن الإحرام بذي الحليفة أفضل إجماعا، ولأن المبادرة إلى العبادة أفضل ولا خلاف أنها لا تركع لإحرامها إذا اغتسلت، والعمرة كالحج في الغسل‏.‏

ويغتسل عند مالك في الحج في ثلاثة مواضع‏:‏ للإحرام ولدخول مكة‏.‏ ورواحة للصلاة بعرفة، وزاد ‏(‏ش‏)‏‏:‏ للوقوف بالمزدلفة‏.‏ ولرمي الجمار الثلاث، ولطواف الزيارة، وطواف الوداع، وللحلاق، وفي ‏(‏الجلاب‏)‏‏:‏ يغتسل لأركان الحج كلها، فعلى قوله‏:‏ يغتسل لطواف الإفاضة، وقال أشهب‏:‏ يغتسل لزيارة قبره عليه السلام، ولرمي الجمار، لمالك ما في ‏(‏الموطأ‏)‏ أن ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة، ولا تغتسل الحائض والنفساء لدخول مكة؛ لأنه للطواف ودخول المسجد، وهما ممنوعان منهما، وقال مالك‏:‏ وغسل الإحرام آكدها لترتيب سائر المناسك عليه، فالغسل له سنة ولغيره فضيلة، قال مالك‏:‏ ولا يتدلك في غسل مكة وعرفة، وبالماء وحده، ويستحب غسل مكة قبل دخولها بذي طوى كفعل ابن عمر - رضي الله عنهما -، وليس في ترك غسله دم ولا فدية اتفاقا، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إن اغتسل بالمدينة ومضى لذي الحليفة من فوره أجزأه لقربها منه، فإن تأخر بياض نهاره أعاده، قال سند‏:‏ استحب عبد الملك تقديمه من المدينة لفعله عليه السلام ذلك، وليس بثابت، وعلى هذا يتجرد من المخيط من المدينة ويلبس ثوبي إحرامه، وقاله ابن حبيب وسحنون، وكل من كان منزله عن الميقاة بثلاثة أميال جاز أن يغتسل منه كالمدينة مع ذي الحليفة، واغتساله لجنابته وإحرامه غسلا وأحدا يجرئ، ولا بأس أن يقص شاربه وأظفاره وعانته، ويكتحل ويلبد شعره بالغسول والصمغ ويظفر ليقل قمله كما فعل عليه السلام وتمتشط المرأة قبل إحرامها بالحناء وما لا طيب فيه وتختضب، واستحبه ‏(‏ش‏)‏ كان لها زوج أو لم يكن؛ لقول ابن عمر - رضي الله عنهما -‏:‏ السنة أن تدلك المرأة يديها بالحناء، قال مالك‏:‏ ولا يجعل في رأسه زئبقا يقتل القمل بعد الإحرام، فإن كان ينظف الرأس منه فلا يكره، ومنع مالك الطيب المؤنث عند الإحرام فإن فعل فالمشهور‏:‏ لا شيء عليه؛ لأن الأئمة قالوا باستحبابه لما في الصحاح‏:‏ قالت عائشة - رضي الله عنها -‏:‏ كنت أطيبه عليه السلام لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه عليه السلام وهو محرم، لمالك‏:‏ ما في ‏(‏الموطأ‏)‏ أن عمر - رضي الله عنه - وجد ريح طيب وهو بالشجرة فقال‏:‏ ممن ريح هذا الطيب‏؟‏ فقال معاوية بن أبي سفيان‏:‏ مني يا أمير المؤمنين، فقال‏:‏ منك لعمر الله، فقال معاوية‏:‏ إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر‏:‏ عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه‏.‏ والجواب عن الأول‏:‏ أن ذلك الطيب لم يكن مؤنثا‏.‏

وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت‏:‏ طيبته عليه السلام لإحلاله وإحرامه طيبا لا يشبه طيبكم هذا، أو لأنه كان قبل غسله عليه السلام ثم اغتسل، وهو خاص به، جمعا بين الأدلة، وعند مالك محمول على الكراهة فلا فدية؛ لأنه لم يستعمل طيبا بعد الإحرام، وإن وجد ريحا، أشار بعض القرويين إلى ما يوجب الفدية حملا للاستصحاب كالابتداء كالمخيط، وعلى المذهب‏:‏ يؤمر بغسله بصب الماء، فإن لم يزل إلا بالمباشرة باشره ولا شيء عليه؛ لأنه فعل مأمور به، فإن كان الطيب في ثوبه نزعه، وإن عاوده وقلنا‏:‏ لا فدية عليه‏:‏ فيحتمل أن يقال‏:‏ لا فدية عليه في العود؛ لأنه معفو عنه، وكذلك إذا نقل الطيب في الموضع من البدن إلى غيره أو الثوب، أو نحاه ثم رده إلى موضعه، وقال الشافعية‏:‏ عليه الفدية؛ لأنه ابتداء تطيب‏.‏

السنة الثانية‏:‏ التجرد من المخيط في إزار ورداء ونعلين، لما في الصحاح أن رجلا سأله عليه السلام ما يلبس المحرم من الثياب‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس‏)‏ قال سند‏:‏ فنبه بالقميص عن الجبة ونحوها، وبالسراويلات عن التبان ونحوه، وبالبرانس عن القلنسوة ونحوها، وبالخفين على القفازين والساعدين ونحوهما، وقال بعض الشافعية‏:‏ يحرم المخيط أو المحيط كما لو سلخ عجلا على هيئته فلبس رقبته في رقبته، ويديه في يديه، وجسده في جسده من غير خياطة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ ليس في الثوب الدنس بأس من غير غسل، قال سند‏:‏ إن كان نجسا غسل، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ الجديد أفضل، لنا‏:‏ إن كان خلقا قد يكون أفضل من جديد، فلو كان عليه طيب فأزاله ببوله صح إحرامه، والبياض أفضل لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خير ثيابكم البياض، فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم‏)‏ والمصبوغ بغير طيب يكره لمن يقتدي به، وجائز للعامة‏.‏ لما في ‏(‏الموطأ‏)‏‏:‏ أن عمر - رضي الله عنه - رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا - وهو محرم - فقال عمر‏:‏ ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة‏؟‏ فقال‏:‏ إنما هو مدر، فقال عمر‏:‏ إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال‏:‏ إن طلحة بن عبيد الله قد كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة، والممنوع اتفاقا ما صبغ بطيب كالزعفران وورس ومنع مالك و‏(‏ح‏)‏ ما ينفض، وجوزه ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، ولم يره من الطيب، لما في ‏(‏الموطأ‏)‏ أن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - كانت تلبس المعصفرات وهي محرمة‏.‏ ولأن الحديث المقدم نص على الزعفران والورس، ومفهومه‏:‏ جواز ما عداهما، واختلف أصحابنا في كونه محرما أو مكروها‏:‏ فقال أشهب‏:‏ لا فدية عليه، وقيل‏:‏ فيه الفدية؛ لأنه كالطيب، أما ما لم ينفض فليس بمكروه للنساء دون الرجال‏:‏ فإن كان في ثوبه لمعة زعفران فلا شيء عليه، ويغسله إذا ذكر، فلو لبس ثوبا فيه ريح الطيب دون جرمه فعليه الفدية عندنا وعند ‏(‏ش‏)‏ لحصول التطيب، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا فدية؛ لأنه لم يستعمل الطيب، كما لو جلس في العطارين، والفرق‏:‏ أنه يعد مستعملا للطيب عرفا، بخلاف الجالس، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا وجد ثمن النعلين فلا يقطع الخفين أسفل من الكعبة كواجد ثمن الماء في التيمم، أو ثمن الرقبة في الظهار‏.‏ قال سند‏:‏ وقد وهم البرادعي في هذا الفرع فقال‏:‏ إذا لم يجد المحرم نعلين وهو مليء جاز له لبس الخفين إذا قطعهما، ولعل الوهم من النساخ، ووافق مالكا ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ في منع الخفين، وأجاز ابن حنبل لبسهما غير مقطوعين، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏السراويل لمن لم يجد إزارا، والخف لمن لم يجد نعلين‏)‏ وهو غير مقيد، أو هذا مطلق، والمقيد مقدم على المطلق، فإن وجد نعلين لم يجد لبسهما مقطوعين ولا الشمشكين، وعليه الفدية، خلافا لبعض الشافعية لاشتراطه عليه السلام فقدان النعلين، وقال ابن حبيب‏:‏ إنما رخص في قطع الخفين قديما لقلة النعال، أما اليوم فلا، ومن فعله افتدى، فإن وجد النعلين غاليين‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن كان ذلك قليلا اغتفر وإلا فلا، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إحرام الرجل في رأسه، والمرأة في وجهها ويديها، ويكره المحرم تغطية ما فوق ذقنه، فإن فعل فلا شيء عليه، لما جاء عن عثمان - رضي الله عنه - قال سند‏:‏ يجب على الرجل كشف رأسه عند مالك والأئمة لنهيه عليه السلام عن العمائم والبرانس، ولا تكشفه المرأة عندهم؛ لأنه عورة منها، ويكشف الرجل وجهه عند مالك، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يغطيه، لما في الموطأ أن عمير الحنفي رأى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالعرج يغطي وجهه وهو محرم‏.‏ لنا‏:‏ قوله عليه السلام في المحرم الذي وقصت به ناقته‏:‏ ‏(‏

لا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا‏)‏ ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المحرم أشعث أغبر‏)‏ وأكثر ظهور الشعث والغبرة في الوجه، ويحتمل أن عثمان - رضي الله عنه - وضع يده على حاجبه من الشمس إذ كان نائما ولم يشعر، أو وارى وجهه بثوب ولم يلصقه، أو فعله لضرورة، ومن وجهة النظر‏:‏ لو جاز ذلك للرجل لجاز للمرأة بطريق الأولى، فإن ستر وجهه‏:‏ فقال ابن القاسم وأشهب‏:‏ لا فدية عليه، وقال الباجي‏:‏ إذا قلنا بتحريم التغطية فغطاه فعليه الفدية، وإن قلنا بالكراهة فلا، وإحرام المرأة في وجهها اتفاقا، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

لا تنتقب المرأة‏)‏‏.‏

فائدة، إنما منع الناس من المخيط وغيره في الإحرام ليخرجوا عن عادتهم والفهم فيكون ذلك مذكرا لهم بما هم فيه من طاعة ربهم فيقبلون عليها، وبالآخرة بمفارقة العوائد في لبس المخيط، والإندارج في الأكفان، وانقطاع المألوف عن الأوطان واللذات‏.‏

السنة الثالثة‏:‏ في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ يصلي ركعتين ثم يلبي ناويا، فالراكب يبتدئ إذا ركب وأراد الأخذ في السير، والماشي إذا أخذ في المشي، والأفضل اختصاص الصلاة بالإحرام، فإن أحرم عقيب الفرض جاز، وفي ‏(‏الموطأ‏)‏ أنه عليه السلام صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين‏.‏ فإذا استوت به راحلته أهل‏.‏ فلو أتى لميقاة في وقت نهي انتظر خروجه إلا الخائف المراهق، قال‏:‏ قال مالك‏:‏ إن أتى وقت مكتوبه لا يتنفل بعدها تنفل قبلها فإن نسي حتى أحرم فخرج على نسيان الغسل، قال مالك‏:‏ يحرم في فناء المسجد إذا ركب‏.‏ ولا ينتظر سير دابته، وقال الأئمة‏:‏ في المسجد عقيب سلامه، لما في أبي داود‏:‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ قلت‏:‏ لعبد الله بن عباس‏:‏ عجبت من اختلاف أصحاب النبي عليه السلام في إهلاله حين أوجب، فقال‏:‏ أني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت منه عليه السلام حجة واحدة‏.‏ فمن هناك اختلفوا، خرج عليه السلام حاجا فلما صلى في المسجد بذي الحليفة ركعتين أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، وسمع ذلك منه أقوام فحفظوه عنه، ثم ركب فلما استقلت به راحلته أهل‏.‏ ورأى ذلك منه أقوام فقالوا‏:‏ إنما أهل حينئذ فلما علا شرف البيداء الخ‏.‏ لنا‏:‏ الحديث السابق، وهو مقصود بالعمل من عمر وغيره من السلف‏.‏ السنة الرابعة‏:‏ في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ من سنن الإحرام‏:‏ تجديد التلبية عند كل صعود وهبوط، وحدوث حادث، وخلف الصلوات، وإذا سمع من يلبي، وصفة تلبيته عليه السلام‏:‏ ‏(‏لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك‏)‏ قال أشهب‏:‏ إن اقتصر عليها فحسن ولا بأس بالزيادة‏.‏ فقد زاد عمر‏:‏ لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك لبيك مرهوبا منك ومرغوبا إليك، وزاده ابن عمر - رضي الله عنهما‏:‏ - لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك والرغباء إليك والعمل‏.‏ ‏(‏فوائد‏)‏ ‏(‏في الصحاح‏)‏ ألب بالمكان إذا قام به، وفي لغة‏:‏ لب، ولبيك مصدر، أي إقامة على طاعتك، كقولك‏:‏ حمدا لله وشكرا له، فكان الأصل أن يقال‏:‏ لبا لك وإلبابا لك، وهي تدل على التكرار الدائم، أي إقامة بعد إقامة على طاعتك أبدا، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏فارجع البصر كرتين‏)‏‏.‏ ‏(‏الملك‏:‏ 4‏)‏ أي أرجعه دائما فلا ترى في السماء شقوقا‏.‏ و‏(‏ألقيا في جهنم‏)‏ ‏(‏ق‏:‏ 24‏)‏ أي إلقاء بعد إلقاء، لأن التثنية أول مراتب التكرار، فدل بها عليه، ونظيره‏:‏ حنانيك، أي هب لنا رحمة بعد رحمة، أو مع رحمة، ودواليك، أي لك دولة بعد دولة، وقال الخليل‏:‏ بل معناه من قولهم‏:‏ دار فلان تلت داري أي تحاذيها‏.‏ أي أنا مواجه لما تحب أجابة لك، وزاد صاحب ‏(‏التنبيهات‏)‏‏:‏ قيل‏:‏ معناها‏:‏ الإجابة، أي أجابة بعد إجابة، وقيل‏:‏ معناها‏:‏ المحبة من قولهم‏:‏ امرأة لبة، إذا كانت تحب ولدها، زاد المازري في ‏(‏المعلم‏)‏ وقيل‏:‏ معناه الإخلاص، أي إخلاصا لك، ونسب لباب إذا كان خالصا ولب الطعام ولبابه، قال‏:‏ ومذهب يونس أنه اسم مفرد قلبت ألفه ياء نحو‏:‏ عليك ولديك، ومذهب سيبويه والجماعة أنه تثنية، قال سند‏:‏ ويروى‏:‏ أن الحمد والنعمة لك، بفتح الهمزة على تقدير، نفعل ذلك؛ لأن الحمد لك، وبكسرها على معنى الإخبار بثبوت المحامد لله، واستحبه محمد بن الحسن؛ لأنه ثناء، والأول تعليل، والرغب‏:‏ المسألة، يقال بفتح الراء ومع المد، وبضمها مع القصر، كالعلياء والعليا، والنعماء والنعما‏.‏ تنبيه‏:‏ التلبية خبر، ومعناه‏:‏ الوعد لله تعالى بالإقامة على طاعته‏.‏ أو بالإجابة له، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل، ومقتضى هذا أن يستمر إلى آخر المناسك في كل حالة تبقى بعدها قربة من المناسك، وكل من قال باستصحابها إلى آخر المناسك كان أكثر إعمالا لمقصودها، وإذا قلنا‏:‏ معناها‏:‏ الإجابة فقيل‏:‏ هي إجابة إبراهيم - عليه السلام - حيث قيل له‏:‏ ‏(‏وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا‏)‏‏.‏ ‏(‏الحج‏:‏ 27‏)‏ وقال سند‏:‏ ويلبي الأعجمي بلغته، ولا يكون الإنسان محرما بالتعليم لمن لا يعلم التلبية، ولا بإجابة غيره بها، ومن سننها‏:‏ الموالاة، قال مالك‏:‏ ولا يرد سلاما حتى يفرغ، وقال الشافعية‏:‏ يرد؛ لأنه واجب، وهي سنة، ويبطل عليهم بالأذان، ثم الواجب إنما يقدم إذا تعذر الجمع، وهو ها هنا ممكن بالرد بعد الفراغ، وليس فيها دعاء ولا الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم ينقل عن تلبيته عليه السلام، والمناسك إتباع، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ورفعنا لك ذكرك‏)‏‏.‏ ‏(‏الشرح‏:‏ 4‏)‏ أي‏:‏ تذكر حين أذكر، كالأذان، ويدعو لما روي عنه أنه عليه السلام‏:‏ ‏(‏كان إذا فرغ من التلبية في حج أو في عمرة سأل الله تعالى رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار‏)‏ وجوابه‏:‏ أن ذلك كان عند قطع التلبية في الحج أو دخول المسجد في العمرة، وهي حالة الدعاء غير مرتبطة بالتلبية، ويستحب رفع الصوت بالتلبية للرجال، قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو باهلال وروي أنه عليه السلام سئل‏:‏ أي الحج أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الثج والعج‏)‏ ومعنى الثج‏:‏ إراقة الدماء، والعج‏:‏ رفع الصوت‏.‏ قال مالك‏:‏ ويلبي خلف النافلة، وفي الفريضة، وفي المنازل والطرق، وحين يلقى الناس، وبطن كل واد، راكبا وماشيا، ونازلا، عند اليقظة من النوم؛ لأن ذلك عادة السلف، وهذا إذا كان ذاهبا في إحرامه، أما لو نسي حاجة فرجع إليها‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يلبي، لأن هذا السعي ليس من سعي الإحرام، ولا تكره التلبية للجنب والحائض لقوله عليه السلام لعائشة - رضي الله عنها - حين حاضت‏:‏ ‏(‏افعلي منا يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت‏)‏ وقياسا على التسبيح، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يرفع ولا يسرف‏.‏ ولا يرفع في المساجد ولا المسجد الحرام، ومسجد منى، وترفع المرأة صوتها قدر إسماع نفسها، قال سند‏:‏ وروي عنه‏:‏ يرفع في المساجد التي بين مكة والمدينة، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ في مسجد مكة ومسجد منى ومسجد عرفة، واختلف في علة المنع، فقال أشهب‏:‏ لأنها تكثر في المسجد الحرام ومسجد منى فلا يشتهر الملبي، وقيل‏:‏ لأن المساجد لم توضع للتلبية، وهذان المسجدان لهما تعلق بالحج فلهما تعلق بالتلبية، وإذا قلنا‏:‏ يرفع صوته فيسمع نفسه ومن يليه، ولمالك في زمن قطع التلبية في الحج خمسة أقوال‏:‏ فروى ابن القاسم في ‏(‏الكتاب‏)‏ ثلاثة‏:‏ إذا زالت الشمس، وراح يريد الصلاة بعرفة‏.‏ واختاره ابن القاسم لما في ‏(‏الموطأ‏)‏ أن عليا - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك، وبعد الزوال والرواح إلى الصلاة بمسجد عرفة؛ لأن التلبية إجابة، وقد أجاب لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

الحج عرفة‏)‏ فقد أخذ في الصلاة والخطبة وتكملة الوقوف، ونظيره‏:‏ المعتمر يدخل الحرم ويأخذ في أسباب الطواف، فإنه يترك التلبية، وإذا فرغ من الصلاة عند الرواح، لما في ‏(‏الموطأ‏)‏ أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تفعل ذلك، وبعد الوقوف بعرفة لتكمل الإجابة، وبعد جمرة العقبة‏.‏

وقاله ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ وجمهور العلماء‏.‏ لما في الصحيحين أنه عليه السلام لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وقد تقدم أن التلبية وعد، وأن الأفضل استمرارها إلى آخر الطاعات، وفرق ابن الجلاب بين من يأتي عرفة محرما فيقطع يوم عرفة، وبين من يحرم بعرفة فيلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا قطع التلبية فلا بأس بالتكبير، ويكره أن يكبر ولا يريد الحج، ومن اعتمر من ميقاته قطع التلبية إذا دخل الحرم، ولا يعاودها، وكذلك من فاته الحج، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا يقطع حتى يفتتح الطواف، لما في الترمذي أنه عليه السلام ‏(‏كان لا يقطع التلبية في العمرة حتى يستلم الحجر‏)‏ وفي البخاري أن ابن عمر كان يقطع التلبية إذا دخل الحرم، وإن أحرم من الجعرانة أو التنعيم قطع إذا دخل بيوت مكة، أو قرب المسجد، لقرب المسافة، قال سند‏:‏ وفرق في ‏(‏المختصر‏)‏ بين من أحرم من التنعيم فقطع عند رؤية البيت، أو من الجعرانة إذا جاء مكة، وهذا كله استحسان، والواجب‏:‏ التلبية من حيث الجملة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ وإذا دخل المسجد الحرام مفردا بالحج أو قارنا فلا يلبي حتى يبتدئ الطواف بالبيت إلى الفراغ من السعي، فإن أبى فواسع، فإذا فرغ عاد إليها، قال سند‏:‏ ولا فرق بين من أفسد حجه لجماع ومن لم يفسده، وبين أهل مكة وغيرهم في قطع التلبية، وروي عنه‏:‏ يقطعها إذا وصل أوائل الحرم، ويعاودها بعد الطواف؛ لأنه وصل إلى مقصوده، وهو فعل ابن عمر، وروي عنه‏:‏ إذا دخل مكة لأنه يأخذ في عمل الطواف من الاغتسال وغيره، وهو وسيلة العذر المانع منها، وقال ‏(‏ش‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ وابن حنبل‏:‏ يلبي وهو يطوف، لنا‏:‏ عمل ‏(‏المدينة‏)‏ أكثر السلف، والقياس على طواف العمرة، وروى‏.‏‏.‏‏.‏ أشهب‏:‏ يعاودها بعد الطواف قبل السعي؛ لأن السعي لا تعلق له بالبيت، وقال صاحب ‏(‏النكت‏)‏‏:‏ قوله في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا توجه ناسيا للتلبية وتطاول ذلك، أو نسيه حتى يفرغ من الحج‏:‏ عليه دم، وإن رجع مع الطول، ولا يسقطه الرجوع، بخلاف من لبى أول إحرامه ثم يترك ناسيا أو عامدا لا دم عليه؛ لأنه أتى بالتلبية أولا حين خوطب بها، وليست محصورة بعد ذلك فاستحقت‏.‏

المقصد الثاني‏:‏ دخول مكة

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ يغتسل بذي ‏(‏طوى‏)‏ ويدخلها من ثنية ‏(‏كداء‏)‏ بفتح الكاف والمد، وهي الصغرى التي بأعلى مكة، ويهبط منها على الأبطح، والمقبرة فيها على يسارك وأنت نازل منها، ويخرج من ثنية ‏(‏كدي‏)‏ بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء على التصغير، وهي الوسطى التي بأسفل مكة، لما في ‏(‏الموطأ‏)‏ أنه عليه السلام ‏(‏

كان يدخل مكة من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى‏)‏ وروي الفتح في كاف الاثنين، والسر في هذا الدخول‏:‏ أن نسبة باب البيت إليه كنبسة وجه الإنسان إليه، وأماثل الناس، إنما يقصدون من جهة وجوههم لا من ظهورهم، ومن أتى من غير هذا الوجه لم يأت من قبالة الباب، ثم يدخل المسجد الحرام من باب بنى شيبة؛ لأنه قبالة البيت، فيأتي الركن الأسود؛ لأن جنبي الباب كيمين الإنسان ويساره، فالذي يقابل يمين المستقبل للبيت يسار البيت، ويمين البيت قبالة يسار المستقبل له، وفي هذا الموضع‏:‏ الحجر، فجعل البداية باليمين لفضله، أو لفضيلة الحجر في نفسه، فيبتدئ بطواف القدوم؛ لأن القدوم على الأماثل يوجب التحية عليهم، وبيت الله في أرضه كبيت الملك في دولته، فشرع الله تعالى طواف القدوم إظهارا لاحترام العبد لبيت الرب، وتميزا له عن غيره، كما شرع الصلاة في دخول المساجد لذلك، وكذلك شرع طواف الوداع؛ لأن القادم ينبغي له السلام إذا فارق، ولما كان السلام على الله تعالى محالا لكونه سالما لذاته فلا يدعى له بالسلامة، جعلت الصلاة والطواف بدلا منه، لتمييز جناب الربوبية عن غيرها، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يستحب دخولها نهارا لما في ‏(‏الموطأ‏)‏‏:‏ ‏(‏أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان إذا دنا من مكة بات بذي طوى بين الثنيتين حتى يصبح، ثم يصلي الصبح ثم يدخل من التثنية التي بأعلى مكة، ولا يدخل إذا خرج حاجا أو معتمرا حتى يغتسل قبل أن يدخل إذا دنا مكة بذي طوى، ويأمر من معه، فيغتسلون قبل أن يدخلوا‏)‏‏.‏ ولما فيه من التمكن من آداب الدخول، وذو طوى ربض من أرباض مكة في طرفها، فإذا دخل المسجد استلم الحجر الأسود بفيه إن قدر، وإلا فليمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل، وإذا لم يصل كبر إذا حاذاه، ولا يرفع يديه، وإن شاء ترك جميع ذلك، ولا يقبل بفيه الركن اليماني، ولكن يلمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل، وإن لم يستطع كبر ومضى، وكلما مر به في طواف واجب أو تطوع ‏(‏إن شاء استلم أو ترك، ولا يدع التكبير كلما حاذاه في طواف واجب أو تطوع‏)‏ ولا يستلم الركنين اللذين يليان الحجر، ولا يقبلان، ولا يكبر إذا حاذاهما، وأنكر مالك قول الناس إذا حاذوا الركن الأسود‏:‏ إيمانا بك وتصديقا بكتابك، ووضع الخدين والجبهة على الحجر الأسود لأنه بدعة، ويستلمه غير الطائف، وبعد ركعتي الطواف قبل الخروج إلى الصفا والمروة إن شاء، وليس عليه أن يرجع من السعي ليستلمه قبل الرواح لمنزله إلا أن يشاء، قال سند‏:‏ قال مالك‏:‏ ويغتسل النساء والصبيان لدخول مكة بذي طوى، قال ابن حبيب‏:‏ ويغسل جسده دون رأسه، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما -، لا يغسل رأسه وهو محرم إلا لجنابة، والمعروف من المذهب غسل الجسد والرأس مع الرفق في صب الماء، قال مالك‏:‏ ولا تغتسل النفساء ولا الحائض، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يغتسلان، لقوله عليه السلام لعائشة - رضي الله عنها - لما حاضت‏:‏ ‏(‏افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت‏)‏ ولأن مقصوده التطيب، قال محمد‏:‏ إن قدم بعد العصر أقام بذي طوى حتى يمسي ليصل بين طوافه وركوعه وسعيه، فإن دخل فلا باس بتأخير الطواف حتى تغرب الشمس فيركع ويسعى إن كان بطهر واحد، فإن انتقص وضوءه أعاد الطواف والسعي، ويقدم المغرب على ركعتي الطواف، فإن دخل قبل طلوع الشمس‏:‏ فالمذاهب أنه لا يطوف، فإن طاف فلا يركع حتى تطلع الشمس، وجوز مطرف الركوع، فعلى قوله يدخل فيطوف، واستحب مالك للمرأة إذا قدمت نهارا أن تؤخر الطواف إلى الليل، قال مالك‏:‏ وما سمعت رفع اليدين عند رؤية البيت أو عند الركن، واستحبه ابن حبيب لما روي عنه عليه السلام ‏(‏أنه كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال‏:‏ اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حج البيت أو اعتمر تشريفا وتعظيما‏)‏ وقاله ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، قال مالك‏:‏ ولا يبدأ في المسجد بالركوع، ولكن باستلام الركن والطواف، لفعله عليه السلام ذلك، وهو متفق عليه، ولأن طواف القدوم واجب فيقدم على الركوع، إلا أن يجد الإمام في فرض فيصلي معه، ثم يطوف، أو يخاف فوات المكتوبة، وروي عن مالك و‏(‏ش‏)‏ تقبيل يده كما يقبل الحجر، وحجة المشهور‏:‏ أن التقبيل في الحجر تعبد، وليست اليد بالحجر، حجة ‏(‏ش‏)‏‏:‏ أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ويقبل المحجن‏.‏ جوابه‏:‏ أنه كان يرى يلصق المحجن على فيه فاعتقد تقبيله، والمحجن عود معقوف الرأس، ويروى عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، فلولا أن الله تعالى طمس نورهما لاضاآ ما بين المشرق والمغرب‏)‏ ‏(‏وأن الحجر الأسود يجيء يوم القيامة له عينان ولسان يشهد لمن استلمه بحق‏)‏ وفي الترمذي‏:‏ ‏(‏أنه من الجنة، وكان أشد بياضا ماللبن فسودته خطايا بنى آدم‏)‏ وروي ‏(‏أنه يمين الله في الأرض‏)‏ ومعناه‏:‏ أنه عهد الله الذي من التمسه كان له عند الله عهد، ولما كانت العهود عند العرب بوضع اليمين في اليمين من المتعاهدين سمي العهد يمينا، أو ضرب مثلا للقرب من الله تعالى، كما جاء‏:‏ ‏(‏المصلي يسجد على قدم الرحمن، فمن وصل إلى قدم الملك، فقد قرب منه‏)‏ أو لأنه يمين البيت، وهو بيت الله تعالى، وقد أقيم الطواف به مقام السلام عليه، فلما أقيم البيت مقام ربه أقيم نسبة يمينه إليه، واختلف في الاستلام فقيل‏:‏ من السلام بكسر السين التي هي الحجارة، ولما كان لمسا للحجر قيل له‏:‏ استلاما، وقيل‏:‏ من السلام بفتح السين، فإن ذلك الفعل سلام على الحجر، ‏(‏وقيل‏:‏ أصله مهموز استلأم من الملائمة التي هي الموافقة، كأنه موافق لتعظيم الحجر‏)‏ أو الشرع في تعظيمه‏.‏

المقصد الثالث‏:‏ الطواف

وصفة الطوافات كلها واحدة، وفيه فصلان

الفصل الأول‏:‏ شرائطه

وهي تسعة، فالثلاثة الأولى في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ طهارة الحدث‏.‏ وطهارة الخبث، وستر العورة، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام‏)‏ ولما حاضت عائشة - رضي الله عنها - بكت فأمرها عليه السلام أن تردف الحج على العمرة، ولولا ذلك لأباح لها الطواف، وقاله ‏(‏ش‏)‏ وقال ‏(‏ح‏)‏ والمغيرة‏:‏ لا تشترط الطهارة قياسا على الوقوف، بل هي سنة إن طاف محدثا فعليه شاة أو جنبا فعليه بدنة وجوابه‏:‏ أن القياس في معرض النص فاسد، ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فأشبهت الصلاة، بخلاف الوقوف، وإذا قلنا باشتراط الطهارة في الصلاة على الإطلاق مع الذكر والنسيان، فكذلك ها هنا، وإن قلنا‏:‏ ليست شرطا مطلقا فكذلك في الطواف، وإن قلنا‏:‏ مع الذكر فكذلك في الطواف، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من طاف الطواف الواجب وفي ثوبه أو جسده نجاسة لم يعد، وإن صلى الركعتين بذلك أعادهما إن كان قريبا، ولم ينتقض وضوءه فإن انتفض وضوءه أو طال فلا شيء عليه لخروج وقت الصلاة، وقال أصبغ‏:‏ سلامه كخروج الوقت، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ إن طاف غير متطهر أعاد ‏(‏فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة رجع من بلده على إحرامه فطاف، وقال المغيره‏:‏ يعيد‏)‏ ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه، وقال أشهب بعد فراغه بالنجاسة أعاد الطواف والسعي فيما قرب إن كان واجبا، وإن تباعد فلا شيء عليه ويهدي، وليس بواجب‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ المولاة، لفعله عليه السلام الطواف كذلك، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا نسي المعتمر شوطا ابتدأ الطواف وركع وسعى وأمر الموسى على رأسه، وقضى عمرة، وأهدى، ولو أردف الحج على عمرته بعد إكمال حجه ثم ذكر بعرفة شوطا من طوافه مضى على قرانه، قال سند‏:‏ هذا على المشهور، في وجوب السبعة وبه قال الأئمة‏:‏ وقد كان ابن القاسم يغتفر الشوطين؛ لأن الأقل تبع للأكثر، وعلى المشهور‏:‏ لو ذكر شوطا بالقرب ولم ينتقض وضوءه عاد إليه بالقرب اتفاقا، كما يرجع إلى الصلاة، وإن طال بطل الطواف عند مالك و‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل قياسا على الصلاة، ولا يبطل عند ‏(‏ح‏)‏ قياسا على الزكاة، والمذهب‏:‏ بطلانه بنقض الوضوء وإن قرب كالصلاة، وروي عن ابن القاسم‏:‏ لا يبطل، قال مالك‏:‏ الشك في الإكمال كتيقن النقض، ولو أخبره آخر بالإكمال أجزأ، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إن خرج في أثناء طوافه فصلى على جنازة أو طلب نفقة نسيها ابتدأ الطواف، ولا يخرج من طوافه إلا لصلاة الفريضة؛ لأن التفريق اليسير لا يبطل لا سيما لضرورة الصلاة، قال سند‏:‏ وفي ‏(‏الموازية‏)‏ يبني قبل أن ينتقل، والمستحب أن يخرج على كمال شوط عند الحجر، فإن خرج من غيره‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ يدخل من موضع خرج، فإن بقي من الطواف شوطان أتمهما إلى أن تعتدل الصفوف، فإن صلى على جنازة‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ يبتدئ طوافه، وقال أشهب مع الأكثرين‏:‏ يبني ولا يقطعه لركعتي الفجر إلا في التطوع، وعلى قول أشهب‏:‏ يبني إذا خرج للنفقة إن لم يطل، وهو أعذر من الجنازة‏.‏ الشرط الخامس‏:‏ الترتيب خلافا لـ ‏(‏ح‏)‏، ووافقنا ‏(‏ش‏)‏، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هو أن يجعل البيت على يساره ويبتدئ بالحجر الأسود، ولو جعله على يمينه لم يصح، ولزمته الإعادة؛ لأن جنبي باب البيت نسبتهما إليه كنسبة يمين الإنسان ويساره إليه، فالحجر موضع اليمين؛ لأنه يقابل يسار الإنسان، وباب البيت وجهه، فلو جعل الحجر على يمينه لأعرض عن باب البيت الذي هو وجهه، ولو جعله على يساره أقبل على الباب، ولا يليق بالأدب الإعراض عن وجوه الأمائل، وتعظيم بيت الله تعالى تعظيم له‏.‏ وقيل‏:‏ إن رجع إلى بلده لم تلزمه إعادة، ولو بدأ بغير الحجر الأسود لم يعتد بذلك الشوط إلى أن ينتهي إلى الحجر فمنه يبتدئ الاحتساب، قال سند‏:‏ البداية عند مالك بالحجر سنة، فإذا بدأ بالركن اليماني فإذا فرغ من سعيه أتم ذلك وتمادى من اليماني إلى الأسود، فإن لم يذكر حتى طال أو انتقض وضوءه أعاد الطواف والسعي، فإن خرج من مكة أجزأه وأهدى، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏)‏‏.‏ ‏(‏الحج‏:‏ 29‏)‏ وهذا قد طاف، فإن تركه عامدا ابتدأ، وإن ابتدأ الطواف من بين الحجر والباب بالشيء اليسير أجزأه، وإن بدأ بباب البيت إلى الركن لا يعتد به، والبداية بالحجر شرط عند الشافعية وسنة عند مالك، فلو ابتدأ بالركن اليماني فإذا فرغ سعيه تمادى من اليماني إلى الأسود، فإن لم يذكر حتى طال أو انتقض وضوءه أعاد الطواف والسعي، فإن خرج مكة أجزأه الهدي لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏)‏‏.‏ ‏(‏الحج‏:‏ 29‏)‏‏.‏

الشرط السادس‏:‏ أن يخرج بجملة جسده عن البيت، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ لا يعتد بما طاف داخل الحجر، ويبني على ما طاف خارجا منه، فإن لم يذكر حتى رجع إلى بلده فليرجع وهو كمن لم يطف، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏)‏

والحجر بقية البيت، فلا يجزئ داخله ولا شاذروانه، خلافا لـ ‏(‏ح‏)‏‏.‏

الشرط السابع‏:‏ أن يكون داخل المسجد، ففي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من طاف من وراء زمزم وفي سقائف المسجد من زحام الناس أجزأه، وإن طاف في السقائف لغير زحام، لحر أو برد، أعاد، قال سند‏:‏ يستحب الدنو من البيت كالصف الأول، وقال أشهب‏:‏ لا يجزئ من طاف خارج السقائف كالطائف خارج المسجد أو من وراء الحرم، والفرق‏:‏ أن اتصال الزحام يصير الجميع متصلا بالبيت كاتصال الزحام بالطرقات يوم الجمعة، ومع عدم الزحام‏:‏ الطائف خارج المسجد يعد طائفا بالمسجد لا بالبيت، وخرج بعض المتأخرين المنع من وراء زمزم على منع أشهب في السقائف، والفرق‏:‏ أن زمزم في بعض الجهات عارض في طريق الطائفين، فلا يؤثر كالمقام لوجهين في المطاف، قال ابن أبي زيد‏:‏ من طاف في سقائف المسجد لا يرجع لذلك من بلده، وقال ابن شبلون‏:‏ يرجع كمن لم يطف، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ إذا رجع إلى بلده هل يجزئه الهدي أو يرجع‏؟‏ قولان للمتأخرين‏.‏

الشرط الثامن‏:‏ إكمال العدد، وهو معلوم من ضرورة الدين، وفي حديث ابن عمر ‏(‏أنه عليه السلام خب ثلاثة أطواف، ومشى أربعا‏)‏ وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من نسي الشوط السابع ركع وسعى‏:‏ فإن كان قريبا طاف شوطا واحدا وركع وسعى، وإن طال أو انتقض وضوءه ابتدأ الطواف وسعى، فلو راح إلى بلده رجع وإن أصاب النساء فعل، كما يفعل من طاف وسعى على غير وضوء، قال سند‏:‏ إطلاق الأطواف مجمع عليه، وجوز مالك الأشواط، وكره ‏(‏ش‏)‏ الأشواط والأدوار، وقد ورد في حديث الرمل‏:‏ الأشواط، والجميع واجب عند مالك و‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، والصحيح من قول ابن القاسم، لفعله عليه السلام، وكان ابن القاسم يخفف في الشوطين ويجعل الأقل تبعا للأكثر، ثم رجع، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ إن طاف أربعا لزمه الإتمام إن كان بمكة، وإلا جبره بدم كإدراك السجود بالركوع‏.‏

الشرط التاسع‏:‏ اتصال ركعتين به، فإن قلت‏:‏ الشرط يجب تقديمه على المشروط وهذا متأخر، فكيف يجعل شرطا‏؟‏ قلت‏:‏ المشروط صحة الطواف وهي متأخرة عن الركوع مع الإمكان، والركوع يتأخر عن الفعل فقط، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ قال عبد الوهاب‏:‏ هما سنة، وقال أبو الوليد‏:‏ الأظهر وجوبهما في الطواف الواجب، ويجبان بالدخول في التطوع، وقال أبو الطاهر‏:‏ هما تابعان للطواف في الوجوب والندب، قال سند‏:‏ ولا خلاف بين أرباب المذاهب أنهما ليستا ركنا، والمذهب‏:‏ أنهما واجبتان يجبران بالدم، وقاله ‏(‏ح‏)‏، وقال ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل‏:‏ لا دم فيهما، لنا‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

من ترك نسكا فعليه دم‏)‏ ولأنهما عبادة بعد الطواف، فيجبان كالسعي، فإذا ذكرهما في سعيه رجع فركع ليقع السعي بعدهما، وهو سنة إن كان على وضوء، وإلا توضأ وأعاد الطواف، وإن قرب، قاله مالك، وقال ابن حبيب‏:‏ إن انتقض وضوءه ابتدأ الطواف إن كان واجبا، وهو مخير في التطوع، ونظيره على قول مالك‏:‏ سجود السهو قبل السلام إذا أخره بعد السلام ثم أحدث أعاد الصلاة على قول، فإن ذكرهما بعد السعي‏:‏ قال مالك‏:‏ يركعهما ويعيد السعي، قياسا على الشوط ينساه، فإن لم يذكر حتى طال ذلك أياما ورجع إلى بلده‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ يركعهما مكانه في سائر الطوافات في الحج والعمرة، ويهدي وطئ النساء أم لم يطأ، فإن ذكر بمكة أو قريبا منها ولم يطأ فإن كانتا من طواف القدوم وليس بمراهق رجع فطاف وسعى وأهدى، أو من طواف الإفاضة طاف ولا دم عليه؛ لأن طواف القدوم متعين الوقت بخلاف الإفاضة، فإن كانتا من طواف القدوم الذي أخره وهو مراهق أو أحرم من مكة، أو كانتا من عمرة وسعى ولا دم عليه، وإن وطئ وهما من أي طواف كان، فتذكر بمكة أو قريبا منها طاف وسعى لما فيه سعي وأهدى واعتمر، وإن رجع إلى بلده ركعهما مكانه وأهدى، ويختلف في جعل النسيان عذرا كالمراهقة فيسقط الدم، وإذا قلنا‏:‏ تختص الإفاضة بوقت معين وجب الدم، وعلى رأي أشهب‏:‏ يجب الدم في العمرة للتفريق، وقال مالك في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إن كانتا من عمرة ورجع لم يكن عليه شيء إلا أن يلبس الثياب ويتطيب، فالدم ينوب عنهما، وقال المغيرة‏:‏ يرجع لهما؛ لأن فعلهما لا يفوت، والأول أحسن لأنهما ليستا بركن، ولا تختصان بمكان واجب، ولهذا لوصلاهما بغير المقام أجزأه، فلا يرجع لهما إلا مع القرب كطواف الوداع، فإن جمع وهو بمكة استحب له العمرة بعد الإصلاح؛ لأنه كان مأمورا بإعادة السعي والطواف لتحصيل الفضيلة، واستحب مالك الفدية إن لبس أو تطيب تشبها بالمحرمين، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ لا تجزئ المكتوبة عنهما؛ لأن الأصل عدم التداخل، ومن لم يركعهما حتى دخل في أسبوع آخر، قطع وركع، وإن لم يذكر حتى أتمه ركع لكل أسبوع ركعتين؛ لأن السعي تفريق يسير، لا يخل بهما، ومن جاء في غير إبان الصلاة أخرهما إلى الحل أجزأتا إلا أن ينتقض وضوءه فيبتدئ الطواف إن كان واجبا، ويركع إلا أن يتباعد فيركعهما ويهدي ولا يرجع، قال سند‏:‏ ولو أخرهما أربعة أسابيع لركع وصح، ولو أخر ذلك عامدا يخرج على اشتراط الموالاة والجواز لجواز الطواف بعد العصر وتأخير الركوع إلى الغروب، وقد قلنا‏:‏ إذا نسي ركع في بلده، ولو أن الطواف صحيح لوجب الرجوع، وفي أبي داود‏:‏ قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏

لا تمنعوا أحدا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة من ليل أو نهار‏)‏ فخص ذلك بعضهم بركعتي الطواف، وبعضهم بالدعاء، قال سند‏:‏ ويحتمل تخصيص ذلك بغير أوقات النهي، وقد طاف عمر - رضي الله عنه - بعد الصبح ولم يركع حتى طلعت الشمس، قال ابن القاسم‏:‏ وإذا أخرهما إلى الغروب قدم المغرب عليهما، ولو ركع بعد العصر أعادهما استحبابا، والقياس الإجزاء؛ لأن الوقت يقبل الصحة، بدليل فعل المفروضات، والمشهور‏:‏ أنه لا يركع بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وقال مطرف‏:‏ يركع إن كان بغلس، ويروى عن عمر - رضي الله عنه – فعله، والمستحب فعلهما في المسجد أو بمكة، فإن فعلهما في طريقه بوضوء واحد فلا رجوع عليه، وإن انتقض وضوءه أعاد الطواف والركوع، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ ومن قدم مكة حاجا أو معتمرا فطاف وسعى ونسي الركوع حتى قضى الحج أو العمرة‏:‏ إن ذكر بمكة أو قريبا منها رجع فطاف وركع وسعى، فإن كان معتمرا فلا شيء عليه، إلا أن يكون قد لبس الثياب وتطيب، وإن كان حاجا وكان الركوع من طواف القدوم الذي يصل به السعي، فعليه الهدي، أو من الإفاضة وكان قريبا رجع فطاف وركع، وإن انتقض وضوءه فلا شيء عليه، وإن كان من طواف السعي الذي يؤخره المراهق حتى يرجع من عرفة فذكر ذلك بمكة بعد حجه أو قريبا منها، أعاد الطواف إن انتقض وضوءه وركع وسعى ولا شيء عليه؛ لأنهما من طواف هو بعد وقوف عرفة، وإن تباعد ركعهما مكانه وأهدى، كانتا من عمرة أو حج، قبل الوقوف أو بعده‏.‏

ولا بأس بالحديث اليسير في الطواف لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيها الكلام‏)‏ ولا ينشد الشعر لشدة منافاته، ولا تستحب القراءة؛ لأنها ليست من عمل السلف، واستحبها ‏(‏ش‏)‏؛ لأن مجاهدا كان يقرأ عليه القرآن في الطواف‏.‏

ومنع ابن القاسم و‏(‏ش‏)‏ من البيع لشدة منافاته، ولأنه داخل المسجد‏.‏ بل ينبغي للطائف الوقار والمبالغة في الأدب مع الله تعالى؛ لأنه في عبادته وعند بيته، وكانت الجاهلية ألصقوا المقام بالبيت خشية السيل، وبقي ذلك إلى زمان عمر - رضي الله عنه - فرده إلى مكانه زمان إبراهيم - عليه السلام - بخيوط قاسها به كانت في خزائن الكعبة، عملها الجاهلية وقت تقديمه‏.‏ وهو عليه الآن، وهو الذي نصب معالم الحرم بعد تغييرها عن مواضعها، قال سند‏:‏ قال مالك‏:‏ بكة‏:‏ موضع البيت، ومكة اسم للقرية، قال ابن حبيب‏:‏ ويستحب الإكثار من شرب ماء زمزم والوضوء به ما أقام بها، قال ابن عباس‏:‏ وليقل إذا شرب‏:‏ اللهم إني أسألك علما نافعا وشفاء من كل داء‏.‏ قال‏:‏ وهو لما شرب له، وقد جعله الله تعالى لإسماعيل - عليه السلام - ولأمه هاجر طعاما وشرابا‏.‏

الفصل الثاني في سننه

وهي أربعة‏:‏ السنة الأولى، الرملان قال في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ للرجال دون النساء في الأشواط الثلاثة الأول والمعية في الباقي، وذلك في طواف القدوم، وفي مشروعيته في الإفاضة للمراهق وفي القدوم في حق من أحرم من التنعيم وشبهه خلاف لما في أبي داود قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فقال المشركون‏:‏ إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب‏.‏ ولقوا منها شرا، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة لا كلها إبقاء عليهم، فلما رأوهم قالوا‏:‏ هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى نهكتهم‏؟‏ هؤلاء أجلد منا‏)‏ فكان السبب في الرملان في حقه عليه السلام وحق أصحابه رضي الله عنهم إظهار القوة للمشركين، فهو ضرب من الجهاد، وسببه في حقنا‏:‏ تذكر النعمة التي أنعم الله تعالى بها علينا من العزة بعد الذلة، والكثرة بعد القلة، والقوة بعد المسكنة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا زوحم في الرمل ولم يجد مسلكا رمل طاقته، ومن جهل أو نسي فترك الرمل في الطواف والسعي فهو خفيف‏.‏ قال سند‏:‏ يستحب الدنو من البيت؛ لأن البيت هو المقصود، فإن لم يجد فرجة يرمل فيها تأخر إلى حاشية الناس؛ لأن الرملان أفضل من الدنو، وروي عن مالك‏:‏ أن تارك الرملان عليه دم، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ يعيد طوافه ما لم يفت، وقال أشهب‏:‏ يعيد طوافه ما كان بمكة، فإن فات أهدى، وقال عبد الملك‏:‏ لا يعيد وعليه دم، لعموم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

من ترك نسكا فعليه دم‏)‏ والمشهور أنه هيئة للطواف فلا يجب بتركه شيء كالناسي في الأربعة الأخيرة، وإذا قلنا بالإعادة ففعله في الأربعة الأخيرة لم يجزه كالقراءة في آخر ركعات الصلاة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ الرملان في القضاء كالأداء، وهو آكد على من أحرم بحج أو عمرة من المواقيت، ممن أحرم من الجعرانة أو التنعيم؛ لأن الأصل رملان الطواف الذي يسعى عقيبه؛ لأنه عليه السلام إنما أظهره فيه، ولأن هاجر لما تركها إبراهيم - عليه السلام - هناك مع إسماعيل عطش فصعدت الصفا تنظر هل بالموضع ماء فلم تر شيئا فنزلت وسعت في بطن المسيل، حتى علت المروة، فجعل ذلك نسكا إظهارا لشرفها وتفخيما لأمرها، قال سند‏:‏ ولا يختلف في طواف الوداع أنه لا رمل فيه، ولا يرمل في طواف التطوع، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ إذا طيف بالمريض الذي لا يقدر على الطواف بنفسه، أو بالصبي فالمنصوص‏:‏ يرمل بالمريض، وفي الصبي قولان أجراهما اللخمي في المريض، وإذا طاف المحرم بالصبي الذي أحرم عنه أجزأ عن الصبي، ولو كان الطائف لم يطف عن نفسه لم ينتقل إليه‏.‏ ولا يكفيهما طواف واحد بخلاف ما إذا حمل صبيين فطاف بهما طوافا واحدا كفاهما كراكبين على دابة‏.‏

السنة الثانية‏:‏ أن يطوف ماشيا لا راكبا، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من طاف محمولا من عذر أجزأه وإلا أعاد أن يرجع إلى بلده فعليه دم، وإن طاف راكبا أعاد إن لم يفت، وإن تطاول فعليه دم، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ المشي من سننه الأربع، قال سند‏:‏ الطواف عبادة بدنية تتعين مباشرتها، والراكب أقرب من المحمول؛ لأن حركة دابته منسوبة إليه، فإن حمله من لا يطوف لنفسه جاز للعذر، فإن كان يطوف لنفسه وطاف طوافا واحدا عنه وعن المحمول‏:‏ فأربعة أقوال‏:‏ يجزئ عنهما قاله ابن القاسم، لا يجزئ عنهما، حكاه ابن شعبان، وعن الحامل فقط، وعن المحمول فقط، وإذا قلنا‏:‏ يجزئ عنهما‏.‏ فكذلك إذا ذهب العذر‏.‏

وإذا قلنا‏:‏ لا يجزئ عنهما فأولى إذا ذهب العذر، وإذا قلنا عن المحمول وحده‏.‏ وجب على الحامل الإعادة، وتستحب للمحمول، وإذا قلنا‏:‏ يجزئ عن الحامل فقط أعاد المحمول فقط، فإن كان الحامل لا يريد الطواف أمر المحمول بالإعادة ليأتي بسننه، فإن رجع إلى بلده صح؛ لأنه لو كان شرطا لما صح مع فقده كالطهارة مع الصلاة، بل هو كسجود السهو مع الصلاة، قالت أم سلمة‏:‏ قلت له عليه السلام‏:‏

إني أشتكي، فقال‏:‏ ‏(‏

طوفي من وراء الناس وأنت راكبة‏)‏ وطاف عليه السلام راكبا لكن لعذر رؤية الناس له ليستفتوه، فإن رجع إلى بلده فعليه دم جبرا للتحلل، وقاله ‏(‏ح‏)‏، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا دم عليه، ويجوز الركوب لمن لا يطيق المشي، ولمالك في الكلفة وحدها قولان، والمشهور‏:‏ المنع، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ إن طاف محمولا أو راكبا من غير عذر‏:‏ قال عبد الوهاب‏:‏ يكره له ذلك‏.‏

السنة الثالثة‏:‏ الدعاء، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ ليس بمحدود، وقال ابن حبيب‏:‏ يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر‏:‏ بسم الله والله أكبر إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي أبي داود‏:‏ ‏(‏كان يقول ما بين الركنين‏:‏ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏)‏ واستحب ‏(‏ش‏)‏‏:‏ اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا، قال سند‏:‏ ويستحب له إذا فرغ من طوافه ودعائه أن يقف بالملتزم للدعاء، قال مالك‏:‏ وذلك واسع، والملتزم ما بين الركن والباب، وقال مطرف‏:‏

ونعني بالملتزم أنه يعتني ويلح بالدعاء عنده، قال مالك‏:‏ ويقال له المتعوذ أيضا، ولا بأس أن يعتنق ويتعوذ به، ولا يتعلق بأستار الكعبة، ولا يحول ظهره للبيت إذا دعا ويستقبله، وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يدنو منه ولا يلتصق، وفي أبي داود‏:‏ ‏(‏لما خرج عليه السلام من الكعبة استلم هو وأصحابه البيت من الباب إلى الحطيم، ووضعوا خدودهم على البيت، وهو عليه السلام في وسطهم‏)‏‏.‏

والحطيم ما بين الباب والركن، كان من ظلم دعا فيه على الظالم فيتحطم، وفي أبي داود‏:‏ ‏(‏كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويبسطهما ثم يقول‏:‏ هكذا رأيته عليه السلام يفعل‏)‏ قال الزهري‏:‏ ويخرج وبصره يتبع البيت حتى يكون آخر عهده به، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يكره دخول البيت بالنعلين والخفين، قال ابن القاسم‏:‏ ولا أرى بذلك في الحجر بأسا، ولم يكره مالك الطواف بالنعلين والخفين، قال سند‏:‏ يستحب دخول البيت لفعله عليه السلام ذلك، وكان عمر بن عبد العزيز يقول، إذا دخله‏:‏ اللهم إنك وعدت الأمان داخل بيتك، وأنت خير منزول به في بيته، اللهم اجعل أماني ما تأمنني به أن تكفيني مؤنة الدنيا وكل هول دون الجنة حتى تبلغنيها برحمتك‏.‏ وأما الحجر فكره أشهب ذلك فيه؛ لأنه من البيت الذي بناه إبراهيم - عليه السلام -، وكان بابه بالأرض يدخله السيل فهدمته العرب ورفعت بابه وضمته من ناحية الحجر ستة أذرع، قال مالك وبناء الكعبة هذا بناء ابن الزبير إلا الحائط الذي في الحجر فإن ابن الزبير كان أخرجه إلى الحجر فهدمه الحجاج ورده إلى بناء العرب وردم البيت حتى علا‏.‏ السنة الرابعة‏:‏ استلام الحجر، وقد تقدمت فروعها في دخول مكة‏.‏

فصل‏[‏الطواف للغرباء‏]‏

قال ابن القاسم في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ الطواف للغرباء أولى من الصلاة؛ لأنهم يجدون الصلاة ببلدهم، وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏

ينزل على البيت مائة وعشرون رحمة، ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين‏)‏ وجواب هذا الحديث إذا قيل‏:‏ إن الصلاة أفضل‏:‏ إن الطواف يشتمل على صلاة ركعتين فيكون الطواف مع الصلاة أفضل من الصلاة وحدها فلا منافاة‏.‏ قال مالك في ‏(‏الموازية‏)‏‏:‏ الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل، والنفل أفضل من الجوار، وكان عمر - رضي الله عنه - يأمر الناس بالقفول بعد الحج؛ لأنه أبقى لهيبة البيت في النفوس، وفي ‏(‏الجلاب‏)‏‏:‏ لا بأس أن يطوف المحرم من مكة قبل خروجه إلى منى تطوعا، ولا بأس بالطواف بعد العصر أو الصبح، ويؤخر الركوع حتى تطلع الشمس أو تغرب، ولا بأس أن يركع بعد الغروب قبل صلاة المغرب أو بعدها قبل التنفل، وتقديم المغرب على ركوع الطواف أولى، ولا يطوف بعد العصر أو الصبح إلا أسبوعا واحدا، ويكره جمع أسابيع وتأخير ركوعها حتى تركع جملة، وليركع عقب كل أسبوع ركعتيه، ومن أحدث في طوافه قاصدا أو غير قاصد انتقض طوافه وتطهر وابتدأه، فإن أحدث بعده وقبل الركوع توضأ وسعى، وإن أحدث في أثناء سعيه توظأ وبنى على سعيه، وإن مضى محدثا أجزأه، قال اللخمي‏:‏ ويركع الطائف لطواف التطوع كالفرض، فإن لم يركع حتى طال أو انتفض وضوءه استأنفه، فإن شرع في أسبوع آخر قطعه وركع، فإن أتمه أتى لكل أسبوع بركعتيه وأجزأه؛ لأنه أمر اختلف فيه، ومقتضى المذهب‏:‏ أن أربعة أسابيع طول تمنع الإصلاح وتوجب عليه الاستئناف فيما تقدم، وهذا الكلام من اللخمي وإطلاقه الإجزاء ووجوب الاستئناف يشعر بأن الشروع في طواف التطوع يوجب الاتمام كالصلاة والصوم، وهو الظاهر من المذهب وكلام شيوخ المذهب، وعلى هذا تكون المسائل التي يجب التطوع فيها بالشروع سبعة‏:‏ الحج، والعمرة، والصلاة، والصوم، والاعتكاف، والأتمام، والطواف‏.‏ ولا يوجد لهذه السبعة ثامن، وقول المالكية‏:‏ التطوع يجب تكميله، محمول على هذه، وقد نصوا على أن الشروع في تجديد الوضوء وغيره من قرأة القرآن وبناء المساجد والصدقات وغيرها من القربات لا يجب إتمامها بالشروع فيها فليعلم ذلك‏.‏

المقصد الرابع‏:‏ السعي

واصل وجوبه وركنيته‏:‏ حديث جابر المتقدم، في ‏(‏الموطأ‏)‏ عن عروة عن أبيه قال‏:‏ قلت لعائشة - رضي الله عنها - أرأيت قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 158‏)‏ وما على الرجل أن لا يطوف بهما قالت عائشة - رضي الله عنها -‏:‏ كلا لو كان كما تقول، لكانت‏:‏ فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت في الأنصار، وكانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، فكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزلها الله، تشير - رضي الله عنها - إلى قاعدة أصولية، وهي‏:‏ أن نفي الحرج إثبات للجواز ‏(‏وثبوت الجواز‏)‏ لا ينافي الوجوب، بل الجواز مع لوازم الوجوب، فلو نفي الحرج عن الترك أبطل الوجوب، وهي جديرة بذلك - رضي الله عنها – لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء‏)‏ وفي السعي فصلان‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في الشروط

وهي أربعة‏:‏ الشرط الأول‏:‏ الترتيب، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا فرغ من طوافه خرج إلى الصفا، ولم يحد مالك في أي باب يخرج، ويستحب أن يصعد منه ومن المروة أعلاهما حيث يرى الكعبة منه، ولا يعجبني أن يدعو قاعدا عليهما إلا من علة، ويقف النساء أسفلهما وليس عليهن الصعود إلا أن يخلوا فيصعدن وذلك أفضل لهن، ولم يحد مالك في الدعاء حدا، ولا لطول القيام وقتا، ويستحب المكث عليهما في الدعاء، وترك رفع الأيدي أحب إلى مالك في كل شيء إلا في ابتداء الصلاة، فإن بدأ بالمروة زاد شرطا ليصير بادئا بالصفا، قال سند‏:‏ الناس يستحبون الخروج من باب الصفا؛ لكونه أقرب، ويجزئ الساعي دون الصعود خلافا لبعض الشافعية، لما روي أن عثمان - رضي الله عنه - كان لا يصعد الصفا ولم ينكر عليه أحد، ولا يجب إلصاق الكعبين به على المذهب بل يبلغه من غير تحديد، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يجب وهو كقوله في الطواف يبدأ بالحجر، قال ابن حبيب‏:‏ يقول إذا صعد الصفا ورأى البيت رافعا يديه‏:‏ الله أكبر الله أكبر الله أكبر، والحمد لله كثيرا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ثم يدعو بما استطاع، ثم يكبر ثلاثا ويهلل مرة، ثم يدعو ثم يعيد التكبير والتهليل، ثم يدعو يفعل ذلك سبع مرات، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مروي عن عمر وغيره، والترتيب شرط عند مالك و‏(‏ش‏)‏ خلافا ل ‏(‏ح‏)‏ لنا‏:‏ حديث جابر فإن خرج إلى بلده يختلف في رجوعه كمن ترك شوطا من الطواف‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ الموالاة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا جلس في سعيه شيئا خفيفا أجزأه، وإن كان كالتارك ابتدأه ولا يبني، ولا يصلي على جنازة، ولا يبيع ولا يشتري، ولا يقف مع أحد يحدثه فإن فعل وكان خفيفا لم يضر، وإن أصابه حقن توضأ وبنى، الكلام هنا كالكلام في الطواف، وهو في السعي أخف، ولذلك جوز له الصلاة على الجنازة بخلاف الطواف‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ إكمال العدد، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من ترك شوطا من حج أو عمرة صحيحة أو فاسدة فليرجع لذلك من بلده‏.‏

سؤال‏:‏ الصفا أفضل أو المروة‏؟‏ جوابه‏:‏ المروة لأن الساعي يزورها من الصفا أربعا ويزور الصفا من المروة ثلاثا، ومن كانت العبادة فيه أكثر كان أفضل‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ أن يتقدمه طواف صحيح، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ يشترط فيه تقدم طواف صحيح، وليسع عقب طواف القدوم، فإن كان مراهقا‏:‏ فعقيب طواف الإفاضة ولو أخره غير المراهق ‏(‏عقيب الإفاضة‏)‏ لزمه الدم عند ابن القاسم، خلافا لأشهب، ولو أخره عقيب طواف الوداع أجزأه عند مالك، خلافا لابن عبد الحكم، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏ قال ابن القاسم‏:‏ إذا قدم مكة فطاف، ولم ينو به حجا ثم سعى‏:‏ لا أحب له سعيه إلا بعد طواف ينوي به الفرض، فإن رجع إلى بلده أو جامع رأيته مجزئا عنه، وعليه دم وأمر الدم خفيف، قال سند‏:‏ وقد نقله البرذاعي على خلاف هذا فقال‏:‏ إذا طاف ولم ينو فرضا ولا تطوعا، ثم سعى لم يجزئه، وليس كذلك؛ لأنه لو لم يجزئه لوجب الرجوع إليه من بلده فإن كان هذا غافلا عن الواجب أجزأه، كالغفلة عن أركان الصلاة، فإن كان ذاكرا للواجب وقصد التطوع، فيحتمل الإجزاء اعتمادا على نية الإحرام‏.‏ وإن الرفض يؤثر فيها وهو الأظهر، ويحتمل عدم الإجزاء لوجود المعارض‏.‏